الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [85] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ يَطْلُبُ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ لِيَدِينَ بِهِ، فَلَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ مِنْهُ {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، يَقُولُ: مِنَ الْبَاخِسِينَ أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَذُكِرَ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مِلَّةٍ اِدَّعَوْا أَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْحَجِّ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ الْحَجَّ، فَامْتَنَعُوا، فَأَدْحَضُ اللَّهُ بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ. ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ، زَعَمَ عِكْرِمَةُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا}، فَقَالَتِ الْمِلَلُ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ: 97]، فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ، وَقَعَدَ الْكُفَّارُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}، قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُجُّهُمْ أَنَّ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} " إِلَى آخَرَ الْآيَةِ، قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ! قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ إِنَّ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ) مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. وَقَالَ آخَرُونَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِاِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 62]، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. اِخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَنْ نَـزَلَتْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَـزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: أَرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: فَنَـزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} " إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. حَدَّثَنِي اِبْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ، فَقَالَ: مَا كَذَبَنِي قَوْمِي! فَرَجَعَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اِرْتَدَّ رَجُلٌ مَنَ الْأَنْصَارِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَفَرَ الْحَارِثُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْقُرْآنِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} " إِلَى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قَالَ: فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُل مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّك وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ. قَالَ: فَرَجَعَ الْحَارِثُ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: "كَيْفَ {يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}، قَالَ: أُنْـزِلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتِ، إِلَى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ، فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، قَالَ: رَجُلٌ مَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَحِقَ بِأَرْضِ الرُّومِ فَتَنَصَّرَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ: "أَرْسِلُوا، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟" قَالَ: فَحَسِبْتُ أَنَّهُ آمَنَ، ثُمَّ رَجَعَ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ، نَـزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ، وَالْحَارِثِ بْنِ سُوِيدِ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَحْوَحِ بْنِ الْأَسْلَتِ فِي اِثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ: هَلْ لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَـزَلَتْ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، الْآيَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ نَـزَلَتْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}، فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، عَرَفُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: "كَيْفَ {يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} " الْآيَةِ كُلِّهَا، قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} " الْآيَةَ، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، رَأَوْا نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ وَأَقَرُّوا بِهِ، وَشَهِدُوا أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَسَدُوا الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرُوهُ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ، حَسَدًا لِلْعَرَبِ، حِينَ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}، قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ، وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ، فَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ مَا قَالَ الْحَسَنُ: مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْنِيٌّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى مَا قَالَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَخْبَارَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ أَكْثَرُ، وَالْقَائِلِينَ بِهِ أَعْلَمُ، بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْـزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِسَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا اِرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَجَمَعَ قِصَّتَهُمْ وَقِصَّةَ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلُهُمْ فِي اِرْتِدَادِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادَهُ سُنَّتَهُ فِيهِمْ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، ثُمَّ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ أَنْ بُعِثَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اِرْتَدَّ وَهُوَ حَيٌّ عَنْ إِسْلَامِهِ. فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْآيَةِ جَمِيعُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَانَ بِمِثْلِ مَعْنَاهُمَا، بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}، يَعْنِي: كَيْفَ يُرْشِدُ اللَّهُ لِلصَّوَابِ وَيُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ، قَوْمًا جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، أَيْ: بَعْدَ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِقْرَارِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}، يَقُولُ: وَبَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَلْقِهِ حَقًّا "وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ)، يَعْنِي: وَجَاءَهُمْ الْحُجَجُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ؟ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ الْجَمَاعَةَ الظَّلَمَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَاخْتَارُوا الْكَفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى "الظُّلْمِ)، وَأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. "أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ)، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ-"جَزَاؤُهُمْ)، ثَوَابُهُمْ مِنْ عَمَلِهِمُ الَّذِي عَمِلُوهُ "أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ)، يَعْنِي: أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ الْإِقْصَاءُ وَالْبُعْدُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ الدُّعَاءُ بِمَا يَسُوؤُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ "أَجْمَعِينَ)، يَعْنِي: مِنْ جَمِيعِهِمْ، لَا مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمَّاهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ، وَلَكِنْ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ، لِأَنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ بِاللَّهِ كُفْرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ "لَعْنَةِ النَّاسِ" الْكَافِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. "خَالِدِينَ فِيهَا" يَعْنِي: مَاكِثِينَ فِيهَا، يَعْنِي فِي عُقُوبَةِ اللَّهِ "لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ)، لَا يُنْقَصُونَ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَا يُنَفَّسُونَ فِيهِ "وَلَا هُمْ يَنْظُرُونَ)، يَعْنِي: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ عَيْنُ الْخُلُودِ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ اِسْتَثْنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ تَابُوا، مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}، يَعْنِي: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ اِرْتِدَادِهِمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ، فَرَاجَعُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ "وَأَصْلَحُوا)، يَعْنِي: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ "فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يَعْنِي: فَإِنَّ اللَّهَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ كُفْرِهِ "غَفُورٌ)، يَعْنِي: سَاتِرٌ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ مِنَ الرِّدَّةِ، فَتَارِكٌ عُقُوبَتَهُ عَلَيْهِ، وَفَضِيحَتَهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، غَيْرُ مُؤَاخِذِهِ بِهِ إِذَا مَاتَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ "رَحِيمٌ)، مُتَعَطِّفٌ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [90] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" بِبَعْضِ أَنْبِيَائِهِ الَّذِينَ بَعَثُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا} " بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ "لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَحَشْرَجَتِهِ بِنَفْسِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لَنْ تُقْبِلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا}، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، كَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَبِعِيسَى، ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفُرْقَانِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا)، قَالَ: اِزْدَادُوا كُفْرًا حَتَّى حَضَرَهُمْ الْمَوْتُ، فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ حِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، وَقَالَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا حِينَ بَعْثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرُوهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمُحَمَّدٍ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ "ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا)، يَعْنِي: ذُنُوبًا "لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُقِيمُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ رَفِيعٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا}، اِزْدَادُوا ذُنُوبًا وَهُمْ كُفَّارٌ "لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ، مَا كَانُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ. حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ، قَالَ، قُلْتُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} "؟ قَالَ: إِنَّمَا هُمْ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا، فَهُمْ يَتُوبُونَ مِنْهَا فِي كُفْرِهِمْ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنِ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ قَالَ: سَأَلَتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنِ: الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْهُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ قَالَ: سَأَلَتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، أَصَابُوا ذُنُوبًا فِي كُفْرِهِمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتُوبُوا مِنْهَا، وَلَنْ يَتُوبُوا مِنَ الْكُفْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} "؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، قَالَ: تَابُوا مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْأَصْلِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا}، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، يُصِيبُونَ الذُّنُوبَ فَيَقُولُونَ: "نَتُوبُ)، وَهُمْ مُشْرِكُونَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَنْ تُقْبَلَ التَّوْبَةُ فِي الضَّلَالَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ "ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا)، يَعْنِي: بِزِيَادَتِهِمْ الْكُفْرَ: تَمَامُهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى هَلَكُوا وَهُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ "لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، لَنْ تَنْفَعُهُمْ تَوْبَتُهُمْ الْأُولَى وَإِيمَانُهُمْ، لِكُفْرِهِمْ الْآخِرِ وَمَوْتِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلَهُ: {ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا}، قَالَ: تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، يَقُولُ: إِيمَانُهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَنْ يَنْفَعَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا}، مَاتُوا كُفَّارًا، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ زِيَادَتُهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ. وَقَالُوا: مَعْنَى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، أَمَّا"اِزْدَادُوا كُفْرًا)، فَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. وَأَمَّا"لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" فَعِنْدَ مَوْتِهِ، إِذَا تَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِهَا الْيَهُودَ " وَأَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَبْعَثِهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ وَمُقَامِهِمْ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ الَّتِي أَصَابُوهَا فِي كُفْرِهِمْ، حَتَّى يَتُوبُوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرَاجِعُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ بِتَصْدِيقِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: "ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ)، لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِيهِمْ نَـزَلَتْ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، إِذْ كَانَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: "مَعْنَى ازْدِيَادِهِمْ الْكُفْرَ: مَا أَصَابُوا فِي كُفْرِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي)، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، إِنَّمَا هُوَ مَعْنِيٌّ بِهِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِمَّا اِزْدَادُوا مِنَ الْكُفْرِ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، لَا مِنْ كُفْرِهِمْ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَعَدَ أَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [سُورَةَ الشُّورَى: 25]، فَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ عَزَّ وَجَلَّ: "أَقْبَلُ" وَ"لَا أَقْبَلُ" فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ قَابِلٌ تَوْبَةَ كُلِّ تَائِبٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَكَانَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَحَدُ تِلْكَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: "إِلَّا {الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُ، غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْبَةَ، هُوَ الِازْدِيَادُ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْكُفْرِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ صَاحِبِهِ مَا أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا مَا أَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ وَضَلَالِهِ. فَأَمَّا إِنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَكُفْرِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللَّهَ- كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ- غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: (فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ مِنْ كُفْرِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ وَتَوْبَتِهِ الْأُولَى"؟ قِيلَ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْعَبْدِ غَيْرُ كَائِنَةٍ إِلَّا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَلَا تَوْبَةَ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ الْحُجَّةِ فِي أَنَّ كَافِرًا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ خُرُوجِ نَفْسِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْمُوَارَثَةِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ غَيْرِهِمَا. فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لَمْ يَنْتَقِلْ حُكْمُهُ مِنْ حُكْمِ الْكُفَّارِ إِلَى حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا مَنْـزِلَةَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ فِيهَاتَوْبَةَ الْكَافِرِ". فَإِذَا صَحَّ أَنَّهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا سَبِيلَ بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَيْهَا، بَطَلَ قَوْلُ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ حُضُورِ الْأَجَلِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: (التَّوْبَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْكُفْرِ)، فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَصِفِ الْقَوْمَ بِإِيمَانٍ كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ كُفْرٍ، ثُمَّ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ بَلْ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِكُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ. فَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ كُفْرٌ كَانَ لِلْإِيمَانِ لَهُمْ تَوْبَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ قَائِلُ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى بَاطِنٍ خَاصٍّ- أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا، هُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا سَبِيلَ الْحَقِّ فَأَخْطَأُوا مَنْهَجَهُ، وَتَرَكُوا نَصَفَ السَّبِيلِ وَهُدَى الدِّينِ، حَيْرَةً مِنْهُمْ، وَعَمًى عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى "الضَّلَالِ" بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ اِفْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [91] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أَيْ: جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ، يَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا وَمَجُوسِهَا وَغَيْرِهِمْ "وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)، يَعْنِي: وَمَاتُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ جُحُودِ نُبُوَّتِهِ وَجُحُودِ مَا جَاءَ بِهِ {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ اِفْتَدَى بِهِ}، يَقُولُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِمَّنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءٌ وَلَا رِشْوَةٌ عَلَى تَرْكِ عُقُوبَتِهِ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَا جُعِلَ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنَ الذَّهَبِ قَدْرُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، فَرْشًا وَجَزَى عَلَى تَرْكِ عُقُوبَتِهِ وَفِي الْعَفْوِ عَنْهُ عَلَى كُفْرِهِ عِوَضًا مِمَّا اللَّهُ مُحِلٌّ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ. لِأَنَّ الرِّشَا إِنَّمَا يَقْبَلُهَا مَنْ كَانَ ذَا حَاجَةٍ إِلَى مَا رُشَيَ. فَأَمَّا مَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَكَيْفَ يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ، وَهُوَ خَلَّاقُ كُلِّ فِدْيَةٍ اِفْتَدَى بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى "الفِدْيَةِ" الْعِوَضُ، وَالْجَزَاءُ مِنَ الْمُفْتَدَى مِنْهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا لَهُمْ عِنْدَهُ فَقَالَ: "أُولَئِكَ)، يَعْنِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ "لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، يَقُولُ: لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ مُوجِعٌ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، يَعْنِي: وَمَا لَهُمْ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا حَمِيمٍ وَلَا صَدِيقٍ يَنْصُرُهُ، فَيَسْتَنْقِذُهُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عَذَابِهِ كَمَا كَانُوا يَنْصُرُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ حَاوَلَ أَذَاهُ وَمَكْرُوهَهُ؟ وَقَدْ:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ! قَالَ فَيُقَالُ: لَقَدْ سُئِلَتْ مَا هُوَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ اِفْتَدَى بِهِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا}، قَالَ: هُوَ كُلُّ كَافِرٍ. وَنُصِبَ قَوْلُهُ"ذَهَبًا" عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِقْدَارِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالتَّفْسِيرِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "مَلْءُ الْأَرْضِ)، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "عِنْدِي قَدْرُ زِقٍّ سَمْنًا وَقَدْرُ رِطْلٍ عَسَلًا)، فَـ "العَسَلُ" مُبَيَّنٌ بِهِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ لِلْمِقْدَارِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ. وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ نَصَبَ "الذَّهَبَ" لِاشْتِغَالِ "المَلْءِ" بِـ "الأَرْضِ)، وَمَجِيءُ "الذَّهَبِ" بِعْدَهُمَا، فَصَارَ نَصْبُهُا نَظِيرُ نَصْبِ الْحَالِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالَ يَجِيءُ بَعْدَ فِعْلٍ قَدْ شُغِلَ بِفَاعِلِهِ، فَيُنْصَبُ كَمَا يُنْصَبُ الْمَفْعُولُ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ الْفِعْلِ الَّذِي قَدْ شُغِلَ بِفَاعِلِهِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ قَوْلِهِ: "مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا" فِي نَصْبِ "الذَّهَبِ" فِي الْكَلَامِ: "لِي مِثْلُكَ رَجُلًا" بِمَعْنَى: لِي مِثْلُكَ مِنَ الرِّجَالِ. وَزَعَمُوا أَنَّ نَصْبَ "الرَّجُلِ)، لِاشْتِغَالِ الْإِضَافَةِ بِالِاسْمِ، فَنُصِبَ كَمَا يُنْصَبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، لِاشْتِغَالِ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ. وَأُدْخِلَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: "وَلَوِ اِفْتَدَى بِهِ)، لِمَحْذُوفٍ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَهُ، دَلَّ عَلَيْهِ دُخُولُ "الوَاوِ)، وَكَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [سُورَةَ الْأَنْعَامِ: 75]، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَوِ اِفْتَدَى بِهِ)، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ"وَاوٌ)، لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَتْرُوكٌ، وَكَانَ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مَلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوِ اِفْتَدَى بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [92] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَنْ تُدْرِكُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْبَرَّ وَهُوَ "البِرُّ" مِنَ اللَّهِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ وَعِبَادَتِهِمْ لَهُ وَيَرْجُونَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِمْ بِإِدْخَالِهِمْ جَنَّتَهُ، وَصَرْفِ عَذَابِهِ عَنْهُمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ "البِرُّ" الْجَنَّةُ، لِأَنَّ بِرَّ الرَّبِّ بِعَبْدِهِ فِي الْآخِرَةِ، إِكْرَامُهُ إِيَّاهُ بِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُرَيْكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، قَالَ: الْجَنَّةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، قَالَ: الْبِرُّ الْجَنَّةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، أَمَّا الْبِرُّ فَالْجَنَّةُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَنْ تَنَالُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، جَنَّةَ رَبِّكُمْ "حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، يَقُولُ: حَتَّى تَتَصَدَّقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَتَهْوَوْنَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ، مِنْ نَفِيسِ أَمْوَالِكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: "لَنْ تَنَالُوا الْبَرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا بِرَّ رَبِّكُمْ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا يُعْجِبُكُمْ، وَمِمَّا تَهْوَوْنَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قَالَ: مِنَ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَمَهْمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَتَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ الْمُتَصَدِّقُ مِنْكُمْ، فَيُنْفِقُهُ مِمَّا يُحِبُّ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ-"عَلِيمٌ)، يَقُولُ: هُوَ ذُو عِلْمٍ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ، حَتَّى يُجَازِيَ صَاحِبَهُ عَلَيْهِ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَهَ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، يَقُولُ: مَحْفُوظٌ لَكُمْ ذَلِكَ، اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ شَاكِرٌ لَهُ. وَبِنَحْوِ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [سُورَةَ الْإِنْسَانِ: 8]، وَ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سُورَةَ الْحَشْرِ: 9]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ سَوَاءً. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، أَوْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 245\ الْحَدِيدِ: 11]، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَائِطِي الَّذِي بِكَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ، وَلَوِ اِسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ سِرًّا لَمْ أَجْعَلْهُ عَلَانِيَةً! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءَ أَهْلِكَ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، اِشْهَدْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بِأَرْيَحَا لِلَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ. فَجَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ). حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا ذَرٍّ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عِمَادُ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الْعَمَلِ، وَالصَّدَقَةُ شَيْءٌ عَجَبٌ! فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَقَدْ تَرَكْتُ شَيْئًا هُوَ أَوْثَقُ عَمَلِي فِي نَفْسِي، لَا أَرَاكَ ذَكَرْتَهُ! قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الصِّيَامُ! فَقَالَ: قُرْبَةٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ! وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "لَنْ {تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، «عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، جَاءَ زَيْدٌ بِفَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: "سَبَلٌ" إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْنَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ). حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ «عَنْ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا حِينَ نَـزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَهَا).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [93] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ شَيْئًا مِنَ الْأَطْعِمَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ حَلَالًا إِلَّا مَا كَانَ يَعْقُوبُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ وَلَدَهُ حَرَّمُوهُ اسْتِنَانًا بِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي وَحْيٍ وَلَا تَنْـزِيلٍ، وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ لَهُ إِلَيْهِمْ، مِنْ قَبْلِ نِـزُولِ التَّوْرَاةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، هَلْ نـَزَلَ فِي التَّوْرَاةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْرَاةَ، حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ قَبْلَ نُـزُولِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا نُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ الْعُرُوقَ، كَانَ يَأْخُذُهُ عِرْقُ النَّسَا، كَانَ يَأْخُذُهُ بِاللَّيْلِ وَيَتْرُكُهُ بِالنَّهَارِ، فَحَلَفَ لَئِنِ اللَّهُ عَافَاهُ مِنْهُ لَا يَأْكُلُ عِرْقًا أَبَدًا، فَحَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، مَا حَرَّمَ هَذَا عَلَيْكُمْ غَيْرِي بِبَغْيِكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 160] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِمِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ إِسْرَائِيلُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّوْرَاةِ، بِبَغْيهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَظُلْمِهِمْ لَهَا. قُلْ يَا مُحَمَّدُ: فَأْتُوا، أَيُّهَا الْيَهُودُ، إِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّكُمْ إِنَّمَا تُحَرِّمُونَهُ لِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَرَامًا، لَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَبِيهِمْ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيْمَهُ إِلَى اللَّهِ. فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِضَافَتِهِمْ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، حَتَّى نَنْظُرَ هَلْ ذَلِكَ فِيهَا، أَمْ لَا؟ فَيَتَبَيَّنُ كَذِبُهُمْ لِمَنْ يَجْهَلُ أَمْرَهُمْ.
ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ، أَخْبَرَنَا عُبَيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} إِسْرَائِيلُ هُوَ يَعْقُوبُ، أَخَذَهُ عِرْقُ النَّسَا فَكَانَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَ مِنْ وَجَعِهِ، وَكَانَ لَا يُؤْذِيهِ بِالنَّهَارِ. فَحَلَفَ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لَا يَأْكُلُ عِرْقًا أَبَدًا، وَذَلِكَ قَبْلَ نـُزِولِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى. فَسَأَلَ نَبِيُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ: مَا هَذَا الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ فَقَالُوا: نَـزَلَتِ التَّوْرَاةُ بِتَحْرِيمِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ. فَقَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وَكَذَّبُوا وَافْتَرَوْا، لَمْ تُنَـزَّلِ التَّوْرَاةُ بِذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ وَبَعْدَ نـُزِولِهَا، إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ بِمَعْنَى: لَكِنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ بَعْضُ ذَلِكَ. وَكَأَنَّ الضَّحَّاكَ وَجَّهَ قَوْلَهُ: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ "الاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ". وَقَالَ آخَرُونَ: تَأْوِيلٌ ذَلِكَ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى وَلَدِهِ بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى وَلَدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَلَا عَلَى وَلَدِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} فَإِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُرُوقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَكَانَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ مِنْهُ لَا يَأْكُلُهُ لِي وَلَدٌ وَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ ! (وَسَأَلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا حَرَامًا؟ فَقَالُوا: هُوَ حَرَامُ عَلَيْنَا مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} إِلَى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَخَذَهُ-يَعْنِي إِسْرَائِيلَ- عِرْقُ النَّسَا، فَكَانَ لَا يَبِيتُ بِاللَّيْلِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، وَكَانَ لَا يُؤْذِيهِ بِالنَّهَارِ، فَحَلَفَ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لَا يَأْكُلُ عِرْقًا أَبَدًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ. فَقَالَ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نـَزَلَتِ التَّوْرَاةُ بِتَحْرِيمِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وَكَذَبُوا، لَيْسَ فِي التَّوْرَاة). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "مَعْنَى ذَلِكَ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ، إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي تَنْـزِيلٍ وَلَا وَحْيٍ قَبْلَ التَّوْرَاةِ، حَتَّى نَـزَلَتِ التَّوْرَاةُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا شَاءَ، وَأَحَلَّ لَهُمْ فِيهَا مَا أَحَبَّ". وَهَذَا قَوْلٌ قَالَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.
ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ {"، وَإِسْرَائِيلُ، هُوَ يَعْقُوبُ "} قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يَقُولُ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ. إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا شَاءَ وَأَحَلَّ لَهُمْ مَا شَاءَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي كَانَ إِسْرَائِيلُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الَّذِي حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ الْعُرُوقَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ، حَدَّثَنَا هَشِيمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ حَرَامًا، قَالَ: لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ. قَالَ: فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَلِمَ؟ وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}؟ قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا كَانَ إِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ: إِسْرَائِيلُ عُرِضَتْ لَهُ الْأَنْسَاءُ فَأَضْنَتْهُ، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْهَا لَا يُطْعِمُ عِرْقًا. قَالَ: فَلِذَلِكَ الْيَهُودُ تَنْـزِعُ الْعُرُوقَ مِنَ اللَّحْمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ. قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ مَاهَكَ يَحْدُثُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ رَجُلًا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}؟ فَقَالَ: إِنْ إِسْرَائِيلَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا، فَحَلَفَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ الْعُرُوقَ مِنَ اللَّحْمِ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قَالَ، إِنْ يَعْقُوبَ أَخَذَهُ وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَوْ: أَقْسَمَ، أَوْ: آلَى: لَا يَأْكُلُهُ مِنَ الدَّوَابِّ. قَالَ: وَالْعُرُوقُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِذَلِكَ الْعِرْقِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ: أَنَّ الْأَنْسَاءَ أَخَذَتْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَسْهَرَتْهُ، فَتَأَلَّى إِنِ اللَّهَ شِفَاهُ لَا يُطْعِمُ نَسًا أَبَدًا، فَتَتَبَّعَتْ بَنُوهُ الْعُرُوقَ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَهَا مِنَ اللَّحْمِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ وَزَادٍ فِيهِ. قَالَ: فَتَأَلَّى لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ لَا يَأْكُلُ عِرْقًا أَبَدًا، فَجَعَلَ بَنُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَتَبَّعُونَ الْعُرُوقَ، فَيُخْرِجُونَهَا مِنَ اللَّحْمِ. وَكَانَ "الذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَّـزَلَ التَّوْرَاةُ"، الْعُرُوقَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قَالَ، اشْتَكَى إِسْرَائِيلُ عِرْقَ النَّسَا فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ شَفَانِي لِأُحَرِّمَنَّ الْعُرُوقَ! فَحَرَّمَهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِسْرَائِيلُ أَخَذَهُ عِرْقُ النَّسَا، فَكَانَ يُبَيِّتُ لَهُ زُقَاءٌ، فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إِنَّ شِفَاهَ أَنْ لَا يَأْكُلُ الْعُرُوقَ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قَالَ سُفْيَانُ: "لَهُ زُقَاءٌ"، يَعْنِي صِيَاحًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا {مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قَالَ، كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَحَرَّمَ الْعُرُوقَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ،: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حَلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ} قَالَ، كَانَ إِسْرَائِيلَ يَأْخُذُهُ عِرْقُ النَّسَا، فَكَانَ يُبَيِّتُ وَلَهُ زُقَاءٌ، فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ عِرْقًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ "الذِي كَانَ إِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ"، لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهُ اشْتَكَى شَكْوَى، فَقَالُوا: إِنَّهُ عِرْقُ النَّسَا، فَقَالَ: رَبِّ، إِنْ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيَّ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا، فَإِنْ شَفَيْتِنِي فَإِنِّي أُحَرِّمُهَا عَلَيَّ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالَ، كَانَ إِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ تَحْرِيمَ إِسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَإِنَّمَا كَانَ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ قَبْلَ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ، فَقَالَ اللَّهُ: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فَقَالَ: لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ تَحْرِيمَ إِسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ لَحْمِ الْإِبِلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِسْرَائِيلَ أَخَذَهُ عِرْقُ النَّسَا، فَكَانَ يَبِيتُ بِاللَّيْلِ لَهُ زُقَاءٌ يَعْنِي: صِيَاحٌ قَالَ: فَجَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ لَا يَأْكُلُهُ يَعْنِي: لُحُومَ الْإِبِلِ قَالَ: فَحَرَّمَهُ الْيَهُودُ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ: " {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، أَيْ: إِنَّ هَذَا قَبْلَ التَّوْرَاةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قَالَ، حَرَّمَ الْعُرُوقَ وَلُحُومَ الْإِبِلِ. قَالَ: كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا، فَأَكَلَ مِنْ لُحُومِهَا فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ يَزْقُو، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلُهُ أَبَدًا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}. قَالَ: حَرَّمَ لَحْمَ الْأَنْعَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ، الْعُرُوقُ وَلُحُومُ الْإِبِلِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ مُجَمَّعَةٌ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِهَا، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَوَائِلُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ خَبَرٌ، وَهُوَ: مَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ عِصَابَةً مِنَ الْيَهُودِ حَضَرَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَخْبَرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرَضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقْمِهِ لِيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَم). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِلزَّاعِمِينَ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ الْعُرُوقَ وَلُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا: " ائْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا "، يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: جِيئُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِمَنْ خَفَى عَلَيْهِ كَذِبَهُمْ وَقِيْلِهِمُ الْبَاطِلَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَمْرِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا أَنْـزَلْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ، فَأْتُوْنَا بِهَا، فَاتْلُوَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِنْهَا. وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَبَّرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ كَذِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَجِيئُونَ بِذَلِكَ أَبَدًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ إِعْلَامَهُ إِيَّاهُ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِمْ. لِأَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أُمِّيٌّ مِنْ غَيْرِ مُلْتَهِمِ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُهُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا يَعْلَمَهُ. فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَيْهِمْ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ كَانَ مِنْ خَفِيِّ عُلُومِهِمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ خَاصَّةٍ مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ، أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمِهِ مِمَّنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [94] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: فَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا وَمِنْكُمْ، مِنْ بَعْدِ مَجِيئِكُمْ بِالتَّوْرَاةِ، وَتِلَاوَتِكُمْ إِيَّاهَا، وَعَدَمِكُمْ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ تَحْرِيمِ اللَّهِ الْعُرُوقَ وَلُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا فِيهَا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يَعْنِي: فَمِنْ فِعْلٍ ذَلِكَ مِنْهُمْ "فَأُولَئِكَ"، يَعْنِي: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِك "هُمُ الظَّالِمُونَ"، يَعْنِي: فَهُمُ الْكَافِرُونَ، الْقَائِلُونَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، كَمَا: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيمٌ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَالَ، نَـزَلَتْ فِي الْيَهُودِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: جَلَّ ثَنَاؤُهُ {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [95] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "قُلْ"، يَا مُحَمَّدُ {صَدَقَ اللَّهُ}، فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَلَا عَلَى وَلَدِهِ الْعُرُوقَ وَلَا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ شَيْئًا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ بِغَيْرِ تَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ خَبَرِ، دُونَكُمْ.وَأَنْتُمْ، يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، الْكِذْبَةُ فِي إِضَافَتِكُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، الْمُفْتَرِيَةُ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ فِي دَعْوَاكُمْ عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، يَقُولُ: فَإِنْ كُنْتُمْ، أَيُّهَا الْيَهُودُ، مُحِقِّينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّكُمْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}، خَلِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ دِينًا، وَابْتَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، ذَلِكَ الْحَنِيفِيَّةُ-يَعْنِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ- دُونَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمُشْرِكَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ. فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا، أَيُّهَا الْيَهُودُ، فُلًّا يَتَّخِذُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ تُطِيعُونَهُمْ كَطَاعَةِ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَلَا تَتَّخِذُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ أَرْبَابًا، وَلَا تَعْبُدُوا شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ كَانَ دِينَهُ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّهِ وَحْدَهُ، مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكِ أَحَدٍ مَعَهُ فِيهِ. فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا، فَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ أَحَدًا، فَإِنَّ جَمِيعَكُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى حَقٍّ وَهُدًى مُسْتَقِيمٍ، فَاتَّبَعُوا مَا قَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُكُمْ عَلَى تَصْوِيبِهِ مِنْ مِلَّتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَدَعَوْا مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الْمِلَلِ غَيْرِهَا، أَيُّهَا الْأَحْزَابُ، فَإِنَّهَا بِدَعٌ ابْتَدَعْتُمُوهَا إِلَى مَا قَدْ أَجْمَعْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الَّذِي أَجْمَعْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَوَابٌ وَحَقٌّ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي ارْتَضَيْتُهُ وَابْتَعَثْتُ بِهِ أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي، وَسَائِرُ ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا أَقْبَلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي جَاءَنِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، يَعْنِي بِهِ: وَمَا كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي التَّظَاهُرِ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. فَبَرَّأَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَوْ [مِنْ] نُصَرَائِهِمْ وَأَهْلِ وِلَايَتِهِمْ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْأَدْيَانِ، غَيْرَ الْحَنِيفِيَّةِ. قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُشْرِكَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [96] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، الَّذِي بِبَكَّةَ. قَالُوا: وَلَيْسَ هُوَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْعُرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عَلَيٍّ فَقَالَ: أَلَّا تُخْبِرَنِي عَنِ الْبَيْتِ؟ أَهْوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْبَرَكَةِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُرْعُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، وَقِيلَ لَهُ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}، هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: فَأَيْنَ كَانَ قَوْمُ نُوحٍ؟ وَأَيْنَ كَانَ قَوْمُ هُودٍ؟ قَالَ: وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدًى. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ، سَأَلَ حَفْصٌ الْحَسَنَ وَأَنَا أُسْمِعُ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قَالَ، هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ عُبِدَ اللَّهُ فِيهِ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنِ يَحْيَى الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ضِمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} قَالَ: قَدْ كَانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيْكُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قَالَ، وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ قَائِلُو ذَلِكَ فِيصِفَةِ وَضْعِهِالْبَيْت الْحَرَام أَوَّلٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُلِقَ قَبْلَ جَمِيعِ الْأَرَضَّيْنِ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرَضُونَ مِنْ تَحْتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا شَيَّبَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ بِكِيرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ-إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ- زَبْدَةً بَيْضَاءَ، فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا خُصَيْفٌ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 110] حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}، أَمَّا {أَوَّلَ بَيْتٍ}، فَإِنَّهُ يَوْمُ كَانَتِ الْأَرْضُ مَاءً، كَانَ زَبْدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ، خَلَقَ الْبَيْتَ مَعَهَا، فَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قَالَ: أَوَّلُ بَيْتٍ وَضَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَطَافَ بِهِ آدَمُ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، مَوْضِعُ أَوَّلِ بَيْتٍ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْبَيْتَ هَبَطَ مَعَ آدَمَ حِينَ هَبَطَ، قَالَ: أُهْبِطُ مَعَكَ بَيْتِي يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي. فَطَافَ حَوْلَهُ آدَمُ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ، زَمَنٌ أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ، رَفْعَهُ اللَّهُ وَطَهَّرَهُ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَصَارَ مَعْمُورًا فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ تَتَبَّعَ مِنْهُ أَثَرًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسٍ قَدِيمٍ كَانَ قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ مُبَارَكٍ وَهُدًى وُضِعَ لِلنَّاسِ، لِلَّذِي بِبَكَّةَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، أَيْ: لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهِ {مُبَارَكًا وَهُدًى}، يَعْنِي بِذَلِكَ: وَمَآبًا لِنُسُكِ النَّاسِكِينَ وَطَوَافِ الطَّائِفِينَ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَإِجْلَالًا لَهُ {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} لِصِحَّةِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلٌ؟ قَالَ: " الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قَالَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَة). فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هُوَأَوَّلُ مَسْجِدٍ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، عَلَى مَا قُلْنَا. فَأَمَّا فِي مَوْضِعِهِ بَيْتًا، بِغَيْرِ مَعْنَى بَيْتٍ لِلْعِبَادَةِ وَالْهُدَى وَالْبَرَكَةِ، فَفِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ مَا قَدْ ذَكَرَتُ بَعْضَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَتُ الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: لِلْبَيْتِ الَّذِي بِمُزْدَحِمِ النَّاسِ لِطَوَافِهِمْ فِي حَجِّهِمْ وَعُمَرِهِمْ. وَأَصْلُ "البَكِّ": الزَّحْمُ، يُقَالُ: مِنْهُ: "بَكَّ فُلَانٌ فُلَانًا" إِذَا زَحَمَهُ وَصَدْمَهُ-"فَهُوَ يَبُكُّهُ بَكًّا، وَهُمْ يَتَبَاكُّونَ فِيهِ"، يَعْنِي بِهِ: يَتَزَاحَمُونَ وَيَتَصَادَمُونَ فِيهِ. فَكَأَنَّ" بَكَّةَ ""فَعْلَةٌ" مِنْ "بَكَّ فُلَانَ فُلَانًا" زَحَمَهُ، سُمِّيَتِ الْبُقْعَةُ بِفِعْلِ الْمُزْدَحِمَيْنِ بِهَا. فَإِذَا كَانَتْ" بَكَّةُ " مَا وَصَفْنَا، وَكَانَ مَوْضِعُ ازْدِحَامِ النَّاسِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ لَا طَوَافَ يَجُوزُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مِنْ دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَا كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَمَكَّةَ، لَا" بَكَّةَ ". لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى خَارِجَهُ يُوجِبُ عَلَى النَّاسِ التَّبَاكَّ فِيهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: (بَكَّةَ “ اسْمٌ لِبَطْنِ “ مَكَّةَ)، وَمَكَّةُ اسْمٌ لِلْحَرَمِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ “ بَكَّةَ “ مَوْضِعٌ مُزْدَحِمُ النَّاسِ لِلطَّوَافِ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} قَالَ: (بَكَّةُ “ مَوْضِعُ الْبَيْتِ، “وَمَكَّةُ “ مَا سِوَى ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغَيَّرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَرَّتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَدَفَعَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّهَا بَكَّةٌ، يَبُكُّ بَعْضُهَا بَعْضًا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ:: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ “بَكَّةُ)، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَتْ “بَكَّةُ " قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا قَالَ: يَعْنِي: يَزْدَحِمُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَسْودِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ “بَكَّةُ)، لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهَا حُجَّاجًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}، فَإِنَّ اللَّهَ بَكَّ بِهِ النَّاسَ جَمِيعًا، فَيُصَلِّي النِّسَاءُ قُدَّامَ الرِّجَالِ، وَلَا يَصْلُحُ بِبَلَدِ غَيْرِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (بَكَّةَ)، بَكَّ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، يُصَلِّي بَعْضُهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضٍ، لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَكَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: (بَكَّةَ)، مَوْضِعُ الْبَيْتِ، وَ“مَكَّةَ “: مَا حَوْلَهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ عُبَيدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ “بَكَّةَ “ قَالَ: (بَكَّةَ “ الْبَيْتُ، وَالْمَسْجِدَ. وَسَأَلَهُ عَنْ “ مَكَّةَ)، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: (مَكَّةُ “: الْحَرَمُ كُلُّهُ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا “بَكَّةَ “: بَكَّ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَحْيَى الرَّمْلِيُّ. قَالَ: قَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، “ بَكَّةَ “: الْمَسْجِدُ، . وَ“مَكَّةَ “: الْبُيُوتُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} قَالَ: هِيَ مَكَّةُ. وَقِيلَ: (مُبَارَكًا)، لِأَنَّ الطَّوَافَ بِهِ مَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ. فَأَمَّا نَصْبُ قَوْلِهِ: (مُبَارَكًا)، فَإِنَّهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: (وُضِعَ)، لِأَنَّ فِي “وُضِعَ “ ذِكْرًا مِنْ “الْبَيْتِ “ هُوَ بِهِ مَشْغُولٌ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ، وَ“مُبَارَكٌ “ نَكِرَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: (هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، فَإِنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}. لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الْبَيْتُ [الَّذِي] بِبَكَّةَ مُبَارَكًا. فَـ “ الْبَيْتُ “ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ (الَّذِي بِبَكَّةَ)، وَ(الَّذِي) بِصِلَتِهِ مَعْرِفَتِهِ، و(الْمُبَارَكُ) نَكِرَةٌ، فَنُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ مِنْهُ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَعَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَ“هُدًى “ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ “مُبَارَكًا “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} عَلَى جِمَاعِ (آيَةٍ)، بِمَعْنَى: فِيهِ عَلَامَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَقَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ. {فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ}، يَعْنِي بِهَا: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، يُرَادُ بِهَا: عَلَامَةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} وَمَا تِلْكَ الْآيَاتُ؟. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَشْعَرِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: {الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ}، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قَالَ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}. وَقَالَ آخَرُونَ: {الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ}، هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} أَمَّا {الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ} فَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَأَوا ذَلِكَ: {فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ} عَلَى التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِـ {الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ}، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ}، قَالَ: قَدَّمَاهُ فِي الْمَقَامِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ. يَقُولُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قَالَ: هَذَا شَيْءٌ آخَرُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ، آيَةٌ بَيِّنَةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: {الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، مِنْهُنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٌ الَّذِي رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْهُمَا. فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُرَادًا فِيهِ {مِنْهُنَّ}، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا الْمَقَامُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَمَا سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قِيلَ: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؟ قِيلَ: مِنْهُنَّ الْمَقَامُ، وَمِنْهُنَّ الْحَجَرُ، وَمِنْهُنَّ الْحَطِيمُ. وَأَصَحُّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}، عَلَى الْجِمَاعِ، لِإِجْمَاعِ قَرَأَةِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ دُونَ غَيْرِهَا. وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}، فَقَدْ ذَكَّرْنَاهُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ]، وَبَيَّنَّا أُولَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِيهِ هُنَالِكَ، وَأَنَّهُ عِنْدَنَا الْمَقَامُ الْمَعْرُوفُ بِهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، لِلَّذِي بِبَكَّةَ، فِيهِ عَلَامَاتٌ بَيِّنَاتٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَآثَارِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، مِنْهُنَّ أَثَرُ قَدَمِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَرِيرَةً ثُمَّ عَاذَ بِالْبَيْتِ، لَمْ يَكُنْ بِهَا مَأْخُوذًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُطْلَبْ. فَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَنْ سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، وَمَنْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَمَنْ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنِ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. لَوْأَصَابَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَلَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَرَأَى قَتَادَةُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَإِنْ سَرَقَ فِيهِ أَحَدٌ قُطِعَ، وَإِنَّ قَتَلَ فِيهِ قُتِلَ، وَلَوْ قُدِرَ فِيهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قُتِلُوا. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خُصَيفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِيالرَّجُلِ يَقْتُلُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ قَالَ: يُؤْخَذُ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْحَرَمِ، ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. يَقُولُ: الْقَتْلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، مِثْلُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ فِي الرَّجُلِ يُصِيبُ الْحَدَّ وَيَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ يُخْرَجُ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالَّذِي دَخَلَهُ مِنَ النَّاسِ كَانَ آمِنًا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ يَدْخُلُهُ يَكُنْ آمِنًا بِهَا بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ. (مَنْ قَامَ لِي أَكْرَمْتُهُ)، بِمَعْنَى: مَنْ يَقُمْ لِي أُكْرِمْهُ. وَقَالُوا: هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الْحَرَمُ مَفْزَعُ كُلِّ خَائِفٍ. وَمَلْجَأُ كُلِّ جَانٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُهَاجُ بِهِ ذُو جَرِيرَةٍ، وَلَا يَعْرِضُ الرَّجُلُ فِيهِ لِقَاتِلِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِسُوءٍ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زَادَهُ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خُصَيفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ الْحَدَّ: قَتَلَ أَوْ سَرَقَ، فَدَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُبَايِعْ وَلَمْ يُؤْوَ، حَتَّى يَتَبَرَّمَ فَيُخْرَجُ مِنْ الْحَرَمِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ. فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَكِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ! أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ بِرُمَّتِهِ، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْ الْحَرَمِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَخْذَ ابْنُ الزُّبَيْرِ سَعْدًا مَوْلًى مُعَاوِيَةَ-وَكَانَ فِي قَلْعَةٍ بِالطَّائِفِ- فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ يُشَاوِرُهُ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ لَنَا عَدُوًّ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وَجَدَتْ قَاتِلَ أَبِي لَمْ أُعْرِضْ لَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَلَّا نُخْرِجَهُمْ مِنْ الْحَرَمِ؟ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلَهُمُ الْحَرَمَ؟ زَادَ أَبُو السَّائِبِ فِي حَدِيثِهِ: فَأَخْرَجَهُمْ فَصَلَبَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُعْرَضْ لَهُ، وَلَمْ يُبَايِعْ، وَلَمْ يُكَلَّمْ، وَلَمْ يُؤْوَ حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ الْحَرَمِ. فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، أُخِذَ فَأُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ: وَمَنْ أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا أُقِيمُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَصْرٍ السُّلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ثُمَّ اسْتَجَارَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ آمِنٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبُوهُ عَلَى شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ. فَإِذَا خَرَجَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ، مَا هِجْتُهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنِ الْوَلِيدَ بْنَ عَتَبَةَ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَا تُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي الْحَرَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ فِيهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْحَدَّ ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدْ أَمِنَ فَإِذَا أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ فَرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ أُقِيمُ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ. وَمَنْ أَصَابَهُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُكَلَّمْ وَلَمْ يُبَايِعْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْحَرَمَ قَالَ: لَا يَبِيعُهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَا يَشْتَرُونَ مِنْهُ، وَلَا يَسْقُونَهُ وَلَا يُطْعِمُونَهُ وَلَا يُؤْوُنَهُ عَدَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً حَتَّى يُخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، فَيُؤْخَذُ بِذَنْبِهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ:: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، أَنَّهُ لَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يُبَايَعُ. فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ:: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا أَحْدَثَ الرَّجُلُ حَدَثًا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُؤْوَ، وَلَمْ يُجَالَسْ، وَلَمْ يُبَايِعْ، وَلَمْ يَطْعَمْ، وَلَمْ يُسْقَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيّ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَعَاذَ بِهَا، ثُمَّ لَقِيَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ لَمْ يَحِلْ لَهُ أَبَدًا أَنْ يَقْتُلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ يَكُنْ آمِنًا مِنَ النَّارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا رُزَيْقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قَالَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسْنِ، وَمِنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَجَأَ إِلَيْهِ عَائِذًا بِهِ، كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِنْ كَانَ أَصَابَ مَا يَسْتَوْجِبُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهِ “. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذَا: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامٌ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ يُدْخِلُهُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَجِيرًا بِهِ، يَكُنْ آمِنًا مِمَّا اسْتَجَارَ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَنْعُكَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ؟ قِيلَ: لِاتِّفَاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ جَرِيرَتُهُ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ عَاذَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِجَرِيرَتِهِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لِأَخْذِهِ بِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِفَةُ ذَلِكَ: مَنْعُهُ الْمَعَانِي الَّتِي يَضْطَرُّ مَعَ مَنْعِهِ وَفَقْدِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرُ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى إِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ مَعَهَا. فَلِذَلِكَ قُلْنَا: غَيْرُ جَائِزٍ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ. فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الْحَدَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ. فَكِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَى حُكْمِهِمَا عَلَى مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا دِلَالَتُكَ عَلَى أَنَّإِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِالْبَيْتِ إِذَا أَتَاهُ مُسْتَجِيرًا بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا. أَوْ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ مِنْ الْحَرَمِ، جَائِزٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَأَخْذِهِ بِالْجَرِيرَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ مَنْ دَخَلَهُ آمِنًا، وَمَعْنَى “الْآمِنِ “ غَيْرُ مَعْنَى “الْخَائِفِ " فَبِمَا هُمَا فِيهِ مُخْتَلِفَانِ؟. قِيلَ: قُلْنَا ذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْعَائِذِ بِهِ مِنْ جَرِيرَةٍ أَصَابَهَا أَوْ فَاحِشَةٍ أَتَاهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهَا عُقُوبَةٌ مِنْهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ لِأَخْذِهِ بِمَا لَزِمَهُ، وَاجِبٌ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: السَّبَبُ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ: تَرْكُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مُبَايَعَتَهُ وَإِطْعَامَهُ وَسَقْيَهُ وَإِيوَاءَهُ وَكَلَامَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا قَرَارَ لِلْعَائِذِ بِهِ فِيهِ مَعَ بَعْضِهَا، فَكَيْفَ مَعَ جَمِيعِهَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ إِخْرَاجُهُ لِإِقَامَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَاجِبٌ بِكُلِّ مَعَانِي الْإِخْرَاجِ. فَلَمَّا كَانَ إِجْمَاعًا مِنَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ-فِيمَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ مِنْ حَدٍّ أَصَابَهُ أَوْ جَرِيرَةٍ جَرَّهَا- إِخْرَاجُهُ مِنْهُ، لِإِقَامَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِقَامَتَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِهِ مِنْهُ كَانَ اللَّازِمُ لَهُمْ وَلِإِمَامِهِمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ بِأَيِّ مَعْنَى أَمْكَنَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ، حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ الَّذِي لَزِمَهُ خَارِجًا مِنْهُ إِذَا كَانَ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ حَدًّا مِنْ حُدُودِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ أَجْلِ بُقْعَةٍ وَمَوْضِعٍ صَارَ إِلَيْهَا مَنْ لَزِمَهُ ذَلِكَ، . وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّة). وَلَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنَّعَائِذًا لَوْ عَاذَ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ بِحَرَمِ النَّبِيِّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤَاخَذُ بِالْعُقُوبَةِ فِيهِ. وَلَوْلَا مَا ذَكَرْتُ مِنْ إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ حَرَمَ إِبْرَاهِيمَ لَا يُقَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ عَاذَ بِهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ مَا لَزِمَهُ، لَكَانَ أَحَقُّ الْبِقَاعِ أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ فَرَائِضُ اللَّهِ الَّتِي أَلْزَمَهَا عِبَادَهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَعْظَمَ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ، كَحَرَمِ اللَّهِ وَحَرَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكُنَّا أُمِرْنَا بِإِخْرَاجِ مِنْ أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ حَرَمِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِ الْأُمَّةِ ذَلِكَ وِرَاثَةً. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مَا كَانَ فِيهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةٍ لَزِمَتْهُ عَائِذًا بِهِ، فَهُوَ آمَنٌ مَا كَانَ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى الْخَوْفِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ هُوَ غَيْرُ دَاخِلِهِ وَلَا هُوَ فِيهِ.
|